حمودي العراقي مدير المنتدى
من اي بلد : العراق عدد المساهمات : 357 نقاط : 1052 تاريخ التسجيل : 09/02/2011 العمر : 31 الموقع : www.mcd3.com
| موضوع: لقد ثقلت حقيبتي يآبي ! الأحد أغسطس 14, 2011 10:44 am | |
| ذكرى الرجل الأول في حياتي
مات شيء ما داخلي
ها أنذا أحدثك من جديد .. كما أفعل دائما , غير أنني اليوم أوُدع كلماتي الورق بعكس الآلاف المرات حين كانت الحروف تعدو خلف أطيافك . أيها الرجل الذي أحب ..
كان لدي الكثير لأقوله , وما إن أمسكت القلم حتى تضاءلت الكلمات و تقزمت الحروف أمام عظيم حضورك.
كيف أبدأ... فمن الصعب اختصار لجة البؤس التي أعيشها , فقد طال غيابك وسمّم الكمد مداد الكلمات والتحفت الأيام بدثارها الأسود ...
ها أنذا أحدثك من جديد ... لكن بقلب سكنته الأحزان وإطار لبه الحادثات وتناسل في أعماقه الوجع , و تناصلت أشلاؤه كوردة ياسمين في يد طفل لعوب .. امتصت ذراتي الهموم قطرة قطرة ومع كل ذلك بقيت ـ ولا أدري لماذا ـ بقيت كجذع ميت لا يصلح إلا كشاهد على تعرية الأيام للروح البشرية . كأني أسمعك تقول لي تغيرت , هو ذلك يا أبي , ومن يمر عليه بعض ما مّر علّي لابد أن يتغير , ويحي كيف يكون الحديث وأنا التي كان عليها التسامي عن غمامتين كلاهما مميت , ألم فقدك وألم مكابدة الحياة من بعدك .
كان كل شيء يسير على ما يرام في حياتي .. لا. لا . بل أفضل من المعتاد .. السعادة موطني والبسمات ألعابي والحب دربي الذي أسير فيه , فتاة ساذجة اُفتتنت بالحياة , وجندت نفسها لعّد النجوم وصدقت أن القمر يعدو خلفها أينما ذهبت , لم تكن تُدرك حينها أن في الحياة موطناً غير السعادة وموئلا غير الطمأنينة .. إلى أن أتت تلك اللحظة التي تطاير فيها كل شيء كنفحة سموم على براعم صغيرة أو كطوفان غاضب على بيوتات رمل صيفية .
أتسأل الآن .... هل هي رحمة الأقدار التي شاءت أن أنعّم ببضع سنين سعيدة لُتشكل رغيفاً أقتاته في سنوات الانكسار التي تلت رحيلك .. أم هي قسوة الأقدار التي أرادت أن تمعن في عذاباتي بأن تطالعني بوجهها الحسن حيناً ثم تكيل لي كل قيحها و قبحها في يوم واحد فأظل أتعذب ما بقي لي من عمر .. فلا شيء أثقل على المرء من ذكرى سعادة آفلة .
يوم واحد شكل الفصل بين فرط سعادتي وفرط شقائي ، يوم واحد كُسر فيه إناء السعادة التي احتسيتها سنين طويلة .
يوم رحيلك .. يوم ولادة ذكرى حزينة في نفسي .. لن أنسى ما حييت ذلك اليوم ..
كنتَ ككل يوم في انتظاري عند أعتاب مدرستي لتأخذ مني حقيبتي المدرسية الثقيلة .. لطالما مازحتني قائلا ( يجب أن يصنعوا كتباً صغيرة لفتاتي الصغيرة )لقد ثقلت حقيبتي يآبي
رغم مشاغل الحياة لم تتوان يوماً عن حمل حقيبتي , وحده ذلك اليوم لم تأتِ , تلفتّ يميناً ويساراً باحثة عن محياك الوسيم .. صرخت باسمك لكن لم يرد سوى ضجيج السيارات , أكملت خطواتي ممتلئة غضباً لتخلفك عن موعدنا الصغير وما إن دخلت منزلي حتى لفحني ذلك الهدوء الذي ـ رغم هدوئه ـ يثير . عواصف من الوجل ! كل ما أذكره هو أصوات شهقات حارة وآيات سورة المزمل ودموع أمي الحارة على وجنتها .. في تلك اللحظة رفعت ذرات عقلي لافتات الاحتجاج والتكذيب .. لا. لا يمكن أن يرحل أبي , لا بد أن هناك ثمة خطأ .. شيء ما لا أعي كنهه أخذ يعربد داخلي وقلبي يطرق في جوفي حتى خلته سينفجر ودموعي تطفح من عيني.. فقدك وإلى الأبد .. توقعتُ من الدنيا حداداً يليق بترجلك عن صهوة الحياة باكراً , وظننتُ أن الشمس لن تجرؤ على الشروق, و أن الأرض ستكف عن الدوران ..لكن لا أحد يكترث ... ذلك اليوم الذي رفض أن يموت ككل الأيام بل ظل يجثم على ما بعده ليحيلها إلى نسخ أكثر قسوة منه لا هم لها سوى تعميق الجراح ... لم أستسلم لفقدك بسهوله ,بل ظلت أدلاء الحنين تغذي شوقي المتوقد للقياك , أضحيت أراك في أحلام اليقظة والمنام , تباغتني صورتك على شاشة التلفاز وبين صفحات كتبي وعلى خد القمر وعلى وجه البحر . وكلما ركضت خلفها أمعنت في الغياب , يا لهذه الأطياف التي تضغط على قلبي كم تمنيت أن ترفق بي فتبعد لأسلو , أو ليتها ـ على كثر هطولها ـ تقترب أكثر فأرتوي وأغسل روحي المثقلة بـاليبسْ , أو لعلها ـ إن عجزت عن هذا وذاك ـ تكون رسولاً يُندب بعض أناتي إليك .
الآن عرفت معنى أن يعيش الإنسان يتيما , أن يموت كل الأحياء ويحيا بداخلك رجل ميت , أن يؤلمك كل شيء ابتداء بقوت يومك وانتهاء باسمك , أن تتحول حياتك وأشياؤك الصغيرة بين ليلة وضحاها إلى ملك عام وأن تمتهن حريتك باسم الوصاية , أن تتحول فجأة ودون مبررات إلى عبء على مجتمع لا ينفك يجاهر بثقلك .
كل شيء من بعدك يا أبي على حاله ..
لا تزال الرياض كما هي تستقبل الكثيرين كل يوم وتلفظ الأكثر بصمت ولا تزال شوارعها تبتلع يومياً بعض عابريها كما فعلت معك , كم لعنت هذه الشوارع وحقدت عليها , منزلنا هو الآخر على حاله مكتبتك وغرفتك لا تزالان تتنفسان أريجك , أعودهما كل يوم , أتنفس ملابسك وأقبل كتبك وأسترخي على كرسيك المفضل , عندها وعندها فقط يهمد ذلك الألم الذي يتلوى في جوفي وأرتد تلك الفتاة التي غادرتني منذ رحيلك تلك الفتاة التي لا تجد لعبة أشهى من تلوين ملفاتك وتمزيق جريدتك .. تنتشي حنايا القلب ويتوقف الزمن وأعود ألون وأمزق وألعب وعيوني معلقة على الباب بلهفة مجنونة لعودتك .. لتبسم لي تلك الابتسامة التي لم ولن أرى أجمل منها وتسمعني جملتي المفضلة ( عشت .. عشت .. بنتي ) , هذه الجملة التي لطالما أزعجت أمي التي كانت دائما تعاتبك قائلة (ستفسدها بدلالك ) , ويمر الوقت طويلا ثقيلا ولا تأتي , فتتبدد عشائر الأمل لتنتفض جوارحي بشهقات نحيب حارقة .
لقد ثقلت حقيبتي يا أبي , وأعياني البحث عن المجهول , فلماذا تركتني صغيرة وحيدة في رحم هذا الزمن المغبر ..
أواه .... أيها الرجل الذي أحب
ستبقى الرجل الأول والأوحد في حياتي ... فبعدك تساوى الرجال أصبحوا يشبهون بعضهم البعض وأكثرهم لا يميزه عن اللاشيء سوى ظله .
لطالما سمعت أن الزمن كفيل بشفاء كل الجروح لكنه استثناني من هذه القاعدة , ليزيد تفاقمها يوماً بعد يوم , لحظة بعد لحظة .. وها أنذا في غرفتك أكتب هذه السطور وأقيم سرادق العزاء الذي لا يحضره معي سوى نصال الألم التي تغوص في أحشائي وفيالق البؤس التي تلتهم ضلوعي .
في مثل هذا اليوم منذ خمس سنين فقدتك ..
وها أنا أقف على أعتاب سنة سادسة لن تكون ـ والعلم عند الله ـ مختلفة عن أخواتها الخمس السابقة , ستظل محاريب الجحيم تحرث في روحي لتنثر بذور الأسى الذي يقتات على أحلامي .
أبي الغالي ..
أتذكر تلك السجادة التي أهديتني إياها قبل رحيلك فقط بأيام .. هي أعز ما أملك .. ألوذ فيها رافعة كفَّيّ إلى السماء طالبة من الله أن يرحمك ويترفق بك ... أنت بين يدي الرحمن وهذا هو الأبقى وستظل ما حييت أبي يا أبي .
لكُل أيتام الدُنيا ♥
يآرب لآتححرمنـي من آبي الغغـآلي لقد ثقلت حقيبتي يآبي | |
|